العنف كما عرف في النظريات المختلفة: هو كل تصرف يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين وقد يكون الأذى جسمياً أو نفسياً، فالسخرية والاستهزاء من الفرد وفرض الآراء بالقوة وإسماعالكلمات البذيئة جميعها أشكال مختلفة لنفس الظاهرة.ومما لاشك فيه ان الاهتمام والالتفات إلى ظاهرة العنف كان نتيجة تطور وعي عام في مطلع القرن العشرين بما يتعلق بالطفولة، خاصةً بعدما تطورت نظريات علم النفس المختلفة التي أخذت تفسر لنا سلوكيات الإنسان على ضوء مرحلة الطفولة المبكرة وأهميتها بتكوين ذات الفرد وتأثيرها على حياته فيما بعد وضرورة توفير الأجواء الحياتية المناسبة لينمو الأطفال نمواً جسدياً ونفسياً سليماً ومتكاملاً. وتعد ظاهرة العنف بشكل عام من أكثر الظواهر التي تستدعي اهتمام الجهات الحكومية المختلفة ن جهة والأسرة التربوية من جهة أخرى. لقد بات مشهد العنف، من المشاهد الأكثر بروزا في الأردن، إذ لا يمر أسبوع من دون أزمة تكون أعمال الشغب والتخريب حاضرة فيها، مما دفع جهات سياسية وحزبية إلى ضرورة تدارس هذه الظاهرة.اللافت في هذا المشهد أن أطراف الأزمة، غير مقتصرة على الفئة الأقل تعليما وثقافة، وإنما تشمل مختلف المستويات الثقافية، وهو ما ينذر بتحول في المجتمع الأردني من مجتمع يعرف بالبساطة والاعتدال، إلى مجتمع يغلب عليه العنف..فقد لاحظنا أن المجتمع الأردني عانى في الاونة الأخيرة من تعاظم حالات العنف في الجامعات والتي لها أسباب 'سياسية واقتصادية واجتماعية' بسبب فشل السياسات التي تنتهجها الجامعات في زرع روح التآخي بين طلابها، ورفع مستوى وعيهم الفكري والثقافي والسياسي، فضلاً عما تمارسه من مضايقات تعيق عملهم السياسي والحزبي وتمنعهم من تشكيل اتحاد عام للطلاب الأردنيين ليكون مدافعاً عن هموم ومشاكل الطلبة وانغماسهم بالعمل العام وهموم الوطن بدل استحضار الجهوية والعشائرية، وكذلك غياب واضح لدور الجامعات كمركز بحث وتطوير وتقديم الحلول لمشاكل الوطن والمواطن. ان ظاهرة العنف أخذت تشكل حالة قلق متزايدة تؤرق المجتمع الأردني بمختلف فئاته وشرائحه الاجتماعية، وإن أسباب ظاهرة القلق هذه تظهر بصورة جلية في مختلف استطلاعات الرأي والتي يمكن تتبعها من خلال الصحافة ووسائل الإعلام، وأصبحت تداعيات هذا العنف المجتمعي حديث الساعة للغالبية الساحقة من المواطنين في مختلف مجالات تواجدهم وملتقياتهم بلا استثناء، بسبب انعكاساتها على التبدلات في السلوك العام وعلى منظومة القيم الاجتماعية. من منا لم يسمع عن أحداث العنف التي حدثت مؤخرا في جامعة مؤتة الأردنية وتجددت اليوم والتي أصبحت ساحاتها وكأنها ساحات معارك حقيقية, فقد أستخدمت فيها الأسلحة الأوتوماتيكية والبيضاء وقنابل المولوتوف..انها أحداث مؤسفة ومخزية تقشعر لها الأبدان, خاصة وان مفتعليها هم الشريحة الأهم في مجتمعاتنا..انهم طلبة الجامعات. لا أريد الدخول في تشريح أسباب العنف الجامعي, وانما أريد وضع النقاط على الحروف لظاهرة يقف على رأس هرمها جيل سيكون له الدور الريادي والقيادي في صنع مستقبل أمة بأكملها.
ظاهرة العنف الجامعي ليست عرضية وما حدث في جامعة مؤتة يعتبر امتدادا لأعمال عنف شهدتها نفس الجامعة وجامعات أخرى, وكذلك أحداث العنف التي حدثت في جامعتي الاسراء واليرموك عام 2006 وغيرها من الجامعات الأردنية.
منذ عقدين من الزمن تقريبا تحولت الجامعات الأردنية الى مؤسسات يسيطر عليها الصراع العشائري وما يترتب عليه من عنف بين أبناء القبائل والحمائل, وهذا الأمر لم يأت من فراغ..من المعروف بأن أقدم جامعة في الأردن هي الجامعة الأردنية, ومن بعدها انضمت اليها العديد من الجامعات الحكومية والخاصة.
في سبعينيات القرن المنصرم, وان كانت العشائرية هي المسيطرة, الا أن الفكر القومي اليساري كان صاحب النفوذ الأكبر من ناحية فكرية وهذا ما لوحظ في الجامعات من خلال المناقشات التي كانت تدور بين الطلبة, وقد اتسمت هذه النقاشات بالواقعية وكانت مبنية على مبدأ'اختلاف الرأي يفسد للود ضية'.
وبعد انتشار التيارات الاسلامية وازدياد نفوذها مع مرور الزمن, لاحظنا هذا الأمر أيضا في الجامعات, فانضمت هذه التيارات الى غيرها من التيارات التي كان لها النفوذ الأقوى, لكن لم تكن هنالك أعمال عنف بسبب تعدد أوجه الفكر وما تبعه من نقاشات بين الطلبة وما يحملونه من أفكار, والنتيجة هي أن الحكومة لم تكن راضية عن ازدياد نفوذ المد الاسلامي وتياراته في معظم مرافق الحياة ومنها الجامعات.
وهنا بدأت الأجهزة الأمنية بعد أن أخذت الضوء الأخضر من الأجهزة الرسمية الحكومية بملاحقة ومعاقبة الطلاب الجامعيين الذين يحملون الفكر القومي اليساري والاسلامي, وظنت هذه الأجهزة بأنها ستنجح في سياسة قمعها هذه, وحتى يكون نجاحها أكبر, قامت بدعم وتوسيع نفوذ العشائرية والقبلية في الجامعات, ولكن الرياح جرت بما لا تشته السفن, أو كما يقال'على نفسها جنت براقش', فمن جهة ازداد نفوذ التيارات العشائرية وهذا ما أرادته الأجهزة الرسمية والأمنية, ومن جهة أخرى تقف هذه الأجهزة عاجزة عن وقف أعمال العنف وما تبعها من تراجع أخلاقي وأكاديمي وثقافي يعصف بكافة الجامعات, وسببه الوحيد والأوحد هو ازدياد النفوذ العشائري في هذه الجامعات, ونلاحظ اثاره السلبية في المجتمع وعلى جميع الأصعدة.
ان ظاهرة العنف الجامعي تعتبر من أخطر الظواهر التي قد تعصف بأي مجتمع, فالجامعات وجدت وأسست لتلقي العلم وبالتالي لتخريج طلبة يحملون شهادات في كافة المجالات, ليقوموا بدورهم في بناء مجتمع حضاري متقدم يسابق المجتمعات الأخرى ليكون هو الأفضل والأرقى, نعم هذا ما نرجوه من الجامعات ومن خريجيها, ولكن وللأسف اننا نلاحظ بأن الجامعات ومع مرور الزمن وعدم وضع حد لهذه الظاهرة الفتاكة, لم تعد مجرد ساحات للعنف فحسب انما'معاهد تفرخ القتلة وتصدر ثقافة الكراهية' كما وصفها أحد الاخوة الكتاب, وتخرج افواجا من المتعصبين والمحبطين.
نكرر بأن ظاهرة العنف الجامعي تعتبر من أخطر المظاهر التي تعصف بالمجتمعات, ومن هنا نشاهد ان موضوع العنف في الجامعات يلقى اهتماما كبيرا من شرائح المجتمع المختلفة على خلفية المشاجرات التي تحصل بين الطلبة بين فترة لأخرى وبغض النظر عن الأسباب, فالعنف لا يولد الا العنف وبالتالي سنشاهد وقد شاهدنا بالفعل اثاره السلبية على الطالب وعشيرته ومجتمعه وجامعته.
لا يوجد بريء في ظاهرة العنف الجامعي, فالطالب متهم وأهله كذلك, والجامعة متهمة ووزارة التربية والتعليم كذلك, هذه الوزارة التي تمثل السلطة التنفيذية والتي بدورها من المفروض أن تقوم بتنسيق الأمور مع السلطة القضائية. عندما يقوم طالب جامعي بإستخدام سلاحه أيا كان نوعه في حرم الجامعة فهذا يعني اما أن يكون متخلفا عقليا, أو أن يكون واثقا تماما من قدرته على فعل ذلك والنجاة بدون حسيب أو رقيب، والاحتمال الثاني هو الأصح, والا فانه لن يجرؤ على القيام بفعلته الشنيعة هذه, انه يقوم بذلك وكأن الحرم الجامعي هو امتداد للفناء الخاص بمنزل ذويه حيث باستطاعته فعل ما يشاء, وعندما تتدخل العشائرية ويقوم هذا الطالب بطلب النجدة, فعلى الفور نشاهد مجموعة من الملثمين تدخل الجامعة للمشاركة في المشاجرات منتهكة حرمة الحرم الجامعي, فهذا يعني أنهم يعتبرون الجامعة امتدادا للشارع والحي الذي يحكمه منطق القوة والفتوة لا القيم والأخلاق الأكاديمية الجامعية..انها فعلا شريعة الغاب ليس الا.
ومن هنا نلاحظ بأننا نتحدث عن أزمة مجتمع جامعي بكل مركباته من الإدارات إلى الأساتذة الأفاضل المنهمكين في أبحاثهم ومحاضراتهم عن الهم الوطني ومصالحه العليا، إلى الطلبة الذين يندمجون في تجمعات عشائرية وطائفية وحزبية وفئوية ضيقة بدلا من الاستفادة من الفرص المتاحة لهم في المعرفة والتطور وتنمية شخصيتهم والاتصال الايجابي بمكونات المجتمع الأخرى، ولهذا فإن علاجها لا يكون بمعاقبة الطلبة فقط, بل ايجاد حلول جذرية لهذه الأمراض الفتاكة.
اننا نلاحظ بأن ادارات الجامعات التي شهدت ساحاتها مشاجرات وأحداث عنف لم تتعامل مع هذه الأحداث كما يجب, فنراها قد ركزت على التحقيق مع المتشاجرين وايقاع العقوبات بدون بذل أي جهد حقيقي وصادق لمعرفة وتحديد أسباب هذه المشاجرات والظروف والعوامل المهيئة لها، وبالتالي تعاملت بمنطق من يكنس الأوساخ ويضعها تحت السجادة بدلا من تنظيفها نهائيا.
كان من الواجب أن تقوم ادارات الجامعات بابلاغ ذوي الطلبة المشاغبين وفصلهم نهائيا من الجامعات وتبليغ الجهات الأمنية..المطلوب عدم التهاون وانزال أقسى العقوبات بحق من يشاغب لكي يكون عبرة لغيره, وكذلك نطالب السلطة التنفيذية بأن تقوم بدورها المرجو منها, والتقليل من الدور العشائري القبلي المسيطر, فلا يعقل أن نرى سلطتين تنفيذيتين في ان واحد,الأقوى بينهما هي السلطة العشائرية..لا مانع من الاستعانة برجال هذه السلطة ولكن الكلمة الأولى والأخيرة يجب أن تكون في يد سلطة القانون المتمثلة في سلطة الدولة.
وحتى نتمكن من الوصول الى حالة من الوعي التي تمنع ظواهر العنف أو على الأقل التقليل منها وتترك للقانون المدني السلطة الكاملة والمطلقة للتعامل مع الجرائم, فان التنسيق بين الشخصيات العشائرية والسياسية ذات الثقل الاجتماعي ووجهاء المناطق ووزارة الداخلية والأمن العام لهو أمر مطلوب.
ملفات العنف الأخيرة في الجامعات الأردنية وكالعادة ستغلق قريبا، وسيتم ايقاع العقوبة ببعض الطلاب و'القوات الداعمة' التي قدمت من الخارج، ولكنني على ثقة تامة بأن العد التنازلي لمشهد عنف اخر سيبدأ, -فانها استراحة محارب ليس الا-، والذي من الممكن أن يكون سببه معركة انتخابية, أو نظرة لم تعجب طالب ما من زميل له, أو بسبب نظرة الى طالبة فابتسامة فشتيمة فضربة, ثم تحويل الحرم الجامعي الى ساحة حرب يستخدم فيها ما يتوفر من سلاح, من الحجر مرورا بالسلاح الأبيض وحتى الأسلحة النارية.نقول, اذا كان هذا حال من هم من طبقة المتعلمين الذين يعول عليهم ان يكونوا قادة المستقبل وصناعه, فما هو حال من لم يصلوا الى الجامعات؟.
ان المناخ الجامعي ان بقي ملوثا كما هو عليه اليوم, وان لا يتم تنظيفه من تلوثه وعلى وجه السرعة, فان الطلاب الجامعيين سيتحولوا الى مجموعة من العصابات والتكتلات التي تجوب شوارع الجامعة ولا تستطيع تحقيق ذاتها إلا من خلال المشاجرات والعنف, فأي مستقبل ينتظر هؤلاء الطلبة وأي مجتمع سيكون ذلك المجتمع الذي سيحوى مثل من هم على شاكلتهم, وأما للجامعات فستتحول الى مراكز وبؤر تخرج الفساد والمفسدين..أعانهم الله, وأعاننا عليهم وأعان مجتمعاتنا المستقبلية.
نعم لحياة جامعية بناءة, لا للعنف الجامعي بكافة أشكاله..ولنتذكر دوما:'العلم يبني بيوتا لا عماد لها**والجهل يهدم بيت العز والكرم'.