الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ، وبعد:
هذه مسألةٌ اسْتلَلْتُها من أحد البحوث التي قمتُ بإعدادها أثناء الدراسة المنهجية لمرحلة الدكتوراه ، ومع كونه أُعدّ على عجل فأطمع أن يستفيد منه القارئ الكريم وأن يُفيد كاتبه بما لديه من استدراكٍ وتصويب.
تحرير محلّ النزاع:
قبل الدخول في المسألة أذكر أنها تتضمن مواطن اتفاقٍ ينبغي ذكرها ليتحرر محل النزاع فيها:
فأولاً: الوعد بشيءٍ محرّم لا يجوز الوفاء به إجماعاً.
وثانياً: الوعد بشيءٍ واجب على الواعد يجب عليه الوفاء به إجماعاً.
وثالثاً: من وعد بأمرٍ مباح فلا خلاف أنه يستحبّ الوفاء به(2).
رابعاً: محلُّ النزاع في وجوب الوفاء بوعدٍ على أمرٍ مباح ، فهل يُلزم به ديانةً ، وهل يمكن أن يُلزم به قضاءً؟(3).
المسألة الأولى: حكم الإلزام بالوعد ديانةً:
اختلف أهل العلم في حكم الوفاء بالوعد ـ بالمعروف ـ ديانةً على قولين:
القول الأول:
أن الوفاء بالوعد مستحبّ وليس بواجب ديانةً ، وهو قول الحنفيّة(4)، والشافعيّة(5)، والحنابلة(6)، والظاهريّة(7)، والمالكيّة(فيما إذا كان الوعد مجرداً)(8).
واستدلوا بأدلةٍ أقواها ما يلي:
الدليل الأول:حديث عطاء بن يسار ـ مرسلاً ـ أن رجلاً قال لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أكذب لامرأتي؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا خير في الكذب ، فقال: أفأعدها ، وأقول لها؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا جناح عليك(9).
وجه الدلالة: أن الحديث يدلّ على أنه لا يجب الوفاء بالوعد ، إذ سؤاله عن الكذب ونهي النبي _صلى الله عليه وسلم_ عنه ، ثم سؤاله عن الوعد يدل على أنه يريد السؤال عن إخلاف الوعد فأجابه النبي _صلى الله عليه وسلم_ بنفي الحرج عنه(10).
نوقش: بأن الحديث مرسل فلا يثبت به حجة.
وعلى التسليم بكونه حجة فهو مخصوص بالعلاقة بين الزوجين وقد رخص النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالكذب فيه ومنه إخلاف الوعد(11).
الدليل الثاني: أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قال:"إذا وعد الرجل أخاه ومن نيّته أن يفي فلم يفِ ولم يجئْ للميعاد فلا إثم عليه" (12).
وجه الدلالة: ظاهرٌ منه أنّ النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ رفع الإثم عن مُخْلف الوعد ولو كان الوفاء بالوعد واجباً لما قال ذلك.
نوقش: بأن الحديث ضعيف كما في تخريجه؛ فلا حجة فيه.
الدليل الثالث: أن المتبرع لا يلزمه إتمام تبرعه قبل قبضه ، فمن وهب شخصاً شيئاً ثم رجع فيه قبل قبضه فله ذلك ؛فإذا كان التبرع لا يلزم قبل قبضه فمن باب أولى أن لا يلزم الوعد بالتبرع(13).
نوقش:بأن الكلام ليس في إتمام التبرع المجرّد عن وعد ، بل الخلاف في حكم الوفاء بالوعد ، وعليه فالتبرع الناشئ عن وعد يجب الوفاء به وإتمامه ولا يجوز الرجوع فيه(14).
القول الثاني: أن الوفاء بالوعد واجب بحيث يحرم إخلافه بلا عذر ، وهو وجهٌ عند الحنابلة(15)، اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة(16)، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي(17).
واستدلوا بأدّلة أكتفي بأقواها وهي:
الدليل الأول: قوله _تعالى_:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2)
وجه الدلالة:ذمُّ الله _تبارك وتعالى_ لمن يقول ما لا يفعل ؛إذْ أخبر _سبحانه_ أنه يمقت ذلك ، والمقت أعظم البغض ، ولا يكون مثل ذلك إلا على ترك واجب أو فعل محرم ، وإخلاف الوعد من قبيل هذا فيشمله الوعيد(18).
نوقش : بأنّ المراد بالآية الأمور الواجبة كالجهاد والزكاة وأداء الحقوق(19).
ويمكن أن يجاب: بأن الأصل في الآية الإطلاق والعموم.
الدليل الثاني:قوله _صلى الله عليه وسلم_:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان"(20).وجه الدلالة:أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ نصّ على أنّ إخلاف الوعد علامةٌ على النفاق ، مما يدلّ بلا ريب على أن الوفاء به واجب ، وإخلافه محرّم(21).
نوقش: بأن الحديث خاصٌّ بمن وعد بشيءٍ واجبٍ عليه فأخلف وليس الحديث على إطلاقه بدليل أنّ من وعد بمحرّم لا يجب عليه الوفاء به، بل لا يجوز له الوفاء به(22).
يمكن أن يناقش: بأن كون الوعد بالحرام لا يجوز الوفاء به مُسلّم ، وهو قطعاً لم يكن داخلاً في مراد النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ أصلاً حتى يقال بأن الحديث دخله التخصيص ؛إذْ هناك فرقٌ بين العمومات التي أريد بها الخصوص وبين العمومات التي دخلها التخصيص ، وعليه فيكون داخلاً في عموم الحديث الوعد بشيءٍ واجب والوعد بشيءٍ لم يجب.
الترجيح:
يظهر لي رجحان القول الثاني وهو القول بوجوب الوفاء بالوعد ديانةً ، وهو الذي تدلّ عليه ظواهر الأدلة، وقد تركت الإسهاب فيها مخافة الطول.
وقد أخذ مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بهذا القول في دورته الخامسة(23).
المسألة الثانية: حكم الإلزام بالوعد قضاءً:
في المسألة السابقة كان الحديث عن الإلزام بالوعد بالمعروف ديانةً ، وفيه تبيّن أن الراجح أنه يلزم ديانةً ، فهل موجِبُ ذلك الإلزام به قضاءً؟
أولاً: الإلزام بالوعد قضاءً إذا كان وعداً بمعروف:
المراد بهذه المسألة: الوعد الْمُنْشَؤُ تبرعاً في غير معاوضة.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول:
الإلزام بذلك قضاءً بإطلاق ، وهو قولٌ عند المالكيّة(24).
واستدلوا: بما سبق الاستدلال به من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالوعد ديانةً ؛إذ الأصل أن ما وجب ديانةً وجب على الحاكم الإلزام به قضاءً لكونه مأموراً بإقامة شرع الله(25).
نوقش: بعدم التسليم بالربط بين الإلزام بالقضاء وبين الواجب ديانةً(26)، وقد ذكر السخاوي فيما نقله عنه صاحب الفتوحات الربّانية فروعاً وجبت ديانةً ولا يُلزم بها قضاء إذْ جاء فيها:((نظير ذلك نفقة القريب فإنها إذا مضت مدة فإنه يأثم بعدم الدفع ولا يُلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: تضعيف العذاب لهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها))(27).
ويجاب : بأن الأصل أن الحاكم مكلّف بالنظر في الحقوق وإقامة شرع الله ، وإذا ثبت وجوب الوفاء بالوعد ديانةً ثبت أنّ هناك حقاً للموعود ولصاحب الحقّ أن يدّعي به عند القاضي وإذا تبيّن للقاضي صدق دعواه كان عليه إلزام الواعد بذلك.
القول الثاني: إنه لا يُلزم به قضاءً ، وهو قولٌ عند المالكية(28)، ومذهب الشافعيّة(29)، والحنابلة(30)، والظاهريّة(31).
واستدلوا: بما سبق ذكره من أدلة للقائلين بأن الوفاء بالوعد مستحب وليس بواجب ، ووجه الدلالة: أن ما ليس واجباً ديانةً فأولى أن لا يجب قضاءً.
نوقش: بعدم التسليم بكونه لا يجب ديانةً إذ تبيّن في الفرع السابق وجوب ذلك ديانة.
القول الثالث: إن الوعد إذا كان معلّقاً على شرط فيكون لازماً بحيث يُقضى به على الواعد ، وهو مذهب الحنفيّة(32).
واستدلوا: بأن الوعد المعلّق على شرطٍ ليس كالوعد المجرّد قياساً على مالو قال: إن شفيت فسأحج فإنه يلزمه الحج ، فكذا لو قال تزوج وأنا أدفع لك التكاليف فإنه يلزمه الوفاء(33).
يناقش:بأن بعدم التسليم بوجوب الوفاء في المقيس عليه ، وحتى لو سُلّم فيه الوجوب فلا يُسلّم بوجوب إلزامه قضاءً بالحج بناءً على ماقال.
القول الرابع: أن الوعد إذا وقع على سبب ودخل الموعود في شيءٍ بناءً على هذا الوعد فإنه يُلزم الواعد بتنفيذه قضاءً ، وهو المشهور عند المالكيّة(34).
واستدلوا: بقوله _صلى الله عليه وسلم_:"لا ضرر ولا ضرار"(35).وجه الدلالة:أن الوعد الذي وقع على سبب أدّى بالموعود إلى الدخول في أمرٍ بسبب ذلك الوعد لو وقع الخُلْف فيه لترتّب على ذلك ضررٌ على الموعود سببه إخلافاً لواعد لوعده وما أدّى إلى الضرر فهو ممنوع(36).
يناقش: بأن الدليل دالٌّ على وجوب الوفاء بالوعد بالمعروف مطلقاً وليس مخصوصاً بهذه المسألة.
الترجيح:
يترجح لي _والله أعلم بالصواب_ القول الأول؛ وهو: الإلزام بالوفاء بالوعد بالمعروف قضاءً لظهور دليله من جهة كونه حقاً يجب على الحاكم تمكين صاحبه منه.
ثانياً : الإلزام بالوعد في المعاوضات (الوعد التجاري):
قبل أن أشرع في بيان هذه المسألة أشير إلى أنه ينبغي التنبيه على أن أقوال الفقهاء في المسألة السابقة خاصّةٌ بالوعد بالمعروف دون الوعد في المعاوضات وهو ظاهرٌ من خلال طرحهم للكلام في المسألة بل هو ظاهر من تعريفهم للوعد بأنه إخبارٌ عن إنشاء المُخْبِر معروفاً في المستقبل(37)، ولهذا فإن المالكية _رحمهم الله_ نصّوا على تسمية الوعد التجاري بالمواعدة تفريقاً بينه وبين الوعد بالمعروف ؛جاء في إيضاح المسالك:"منع مالكٌ المواعدة في العدّة وعلى بيع الطعام قبل قبضه ، ووقت نداء الجمعة ، وعلى ما ليس عندك"(38).
وبناء على ما سبق فلا يستقيم حملُ أقوال الفقهاء في مسألة الإلزام بالوعد بالمعروف على هذه المسألة ، بل يمكن اعتبارها مسألة جديدة مع الاستفادة مما ذكره الفقهاء في المسألة التي قبلها(39).
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم الإلزام بالوفاء بالوعد التجاري على قولين:
القول الأول:
جواز اشتراط أن تكون المواعدة ملزمةً للطرفين بحيث يُلزم كلٌّ منهما قضاءً، وهو رأي جماعةٍ من المعاصرين منهم: د.سامي حمود(40)، والشيخ يوسف القرضاوي(41)، وبه صدر قرار المصرف الإسلامي الأول المنعقد في دبي(42)، وقرار مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت(43).
واستدلوا بعدة أدلة أقواها ما يلي:
الدليل الأول: قوله _صلى الله عليه وسلم_:"لا ضرر ولا ضرار"(44).
وجه الدلالة: أن الحديث يمنع الضرر والإضرار بالآخرين وفي الإلزام بالمواعدة للطرفين منعٌ لضرر متحقق أو غالبِ التحقق على أحدهما.
نوقش:بأن الضرر غير متعيّن ؛إذْ يمكن دفع الضرر بطرقٍ أخرى منها أن يشترط المأمور بالشراء عند شرائه السلعة من مالكها الخيار مدةً تمكنه من إعادتها في حال رفض الآمر شراءها(45).
الدليل الثاني: أن في الإلزام بهذه المواعدة مصالح متعددة ، منها : مصلحة العاقدين من جهة الاطمئنان إلى إتمام التعاقد ، ومصلحة استقرار المعاملات وضبطها مما سيدفع الشقاق والاختلاف مع أنه لا محظور في القول بالإلزام(46).
نوقش:بأن المحظور الشرعيّ غير منتفٍ بل هو متحقق، وذلك لأن الشارع قد نهى عن بيع ما ليس عند البائع ، والمواعدة الملزمة هي في الحقيقة معاقدة على البيع والشراء ، وبناء على ذلك فإن كلّ مصلحةٍ تترتب على ذلك تكون ملغاةً في نظر الشرع لمخالفتها لصريح النهي عن بيع ماليس عندك(47).الدليل الثالث: ما سبق ذكره من أدلة للإلزام بالوعد بالمعروف ، هي كذلك دالّةٌ على الإلزام بالوعد التجاري إذ لا فرق(48).
نوقش:بأن الوعد التجاري هو في الحقيقة عقدٌ فينبغي أن تُجرى عليه أحكام العقد ومنه عدم جواز الوعد ببيع ما ليس مملوكاً للبائع وعداً مُلزِماً. ومن جهةٍ أخرى فلا يصحّ قياس الوعد في المعاوضات على الوعد بالمعروف؛ لأن في الإلزام بالوعد في المعاوضات مفاسد منها ما سبق ذكره من كونه يترتب عليه إلحاقها ببيع الإنسان ما لا يملك ، وأيضاً فإن العقد التالي لتلك المواعدة الملزمة سيكون واقعاً تحت ضغط الإلزام خالياً عن الرضا الذي هو شرطٌ في صحة التعاقد(49).
القول الثاني: أنه لا يجوز اشتراط كون المواعدة أو الوعد التجاري ملزماً للطرفين، وهو رأي أكثر المعاصرين ، وصدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي(50)، وعليه فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(51).
واستدلوا بأدلة أقواها ما يلي:
الدليل الأول : أن العبرة بحقائق العقود لا بالألفاظ ، وإذا تم التواعد على كون الوعد ملزماً فإنه في الحقيقة تعاقد وإن سمي وعداً لأن الإلزام من أبرز خصائص العقد(52).
نوقش: بأنه لا يُسلّم ذلك من جهة أن التواعد وإن كان ملزماً فإنه يقتصر على إبداء الرغبة في البيع والشراء دون إتمام ذلك(53).
هذه مسألةٌ اسْتلَلْتُها من أحد البحوث التي قمتُ بإعدادها أثناء الدراسة المنهجية لمرحلة الدكتوراه ، ومع كونه أُعدّ على عجل فأطمع أن يستفيد منه القارئ الكريم وأن يُفيد كاتبه بما لديه من استدراكٍ وتصويب.
تحرير محلّ النزاع:
قبل الدخول في المسألة أذكر أنها تتضمن مواطن اتفاقٍ ينبغي ذكرها ليتحرر محل النزاع فيها:
فأولاً: الوعد بشيءٍ محرّم لا يجوز الوفاء به إجماعاً.
وثانياً: الوعد بشيءٍ واجب على الواعد يجب عليه الوفاء به إجماعاً.
وثالثاً: من وعد بأمرٍ مباح فلا خلاف أنه يستحبّ الوفاء به(2).
رابعاً: محلُّ النزاع في وجوب الوفاء بوعدٍ على أمرٍ مباح ، فهل يُلزم به ديانةً ، وهل يمكن أن يُلزم به قضاءً؟(3).
المسألة الأولى: حكم الإلزام بالوعد ديانةً:
اختلف أهل العلم في حكم الوفاء بالوعد ـ بالمعروف ـ ديانةً على قولين:
القول الأول:
أن الوفاء بالوعد مستحبّ وليس بواجب ديانةً ، وهو قول الحنفيّة(4)، والشافعيّة(5)، والحنابلة(6)، والظاهريّة(7)، والمالكيّة(فيما إذا كان الوعد مجرداً)(8).
واستدلوا بأدلةٍ أقواها ما يلي:
الدليل الأول:حديث عطاء بن يسار ـ مرسلاً ـ أن رجلاً قال لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أكذب لامرأتي؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا خير في الكذب ، فقال: أفأعدها ، وأقول لها؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: لا جناح عليك(9).
وجه الدلالة: أن الحديث يدلّ على أنه لا يجب الوفاء بالوعد ، إذ سؤاله عن الكذب ونهي النبي _صلى الله عليه وسلم_ عنه ، ثم سؤاله عن الوعد يدل على أنه يريد السؤال عن إخلاف الوعد فأجابه النبي _صلى الله عليه وسلم_ بنفي الحرج عنه(10).
نوقش: بأن الحديث مرسل فلا يثبت به حجة.
وعلى التسليم بكونه حجة فهو مخصوص بالعلاقة بين الزوجين وقد رخص النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالكذب فيه ومنه إخلاف الوعد(11).
الدليل الثاني: أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ قال:"إذا وعد الرجل أخاه ومن نيّته أن يفي فلم يفِ ولم يجئْ للميعاد فلا إثم عليه" (12).
وجه الدلالة: ظاهرٌ منه أنّ النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ رفع الإثم عن مُخْلف الوعد ولو كان الوفاء بالوعد واجباً لما قال ذلك.
نوقش: بأن الحديث ضعيف كما في تخريجه؛ فلا حجة فيه.
الدليل الثالث: أن المتبرع لا يلزمه إتمام تبرعه قبل قبضه ، فمن وهب شخصاً شيئاً ثم رجع فيه قبل قبضه فله ذلك ؛فإذا كان التبرع لا يلزم قبل قبضه فمن باب أولى أن لا يلزم الوعد بالتبرع(13).
نوقش:بأن الكلام ليس في إتمام التبرع المجرّد عن وعد ، بل الخلاف في حكم الوفاء بالوعد ، وعليه فالتبرع الناشئ عن وعد يجب الوفاء به وإتمامه ولا يجوز الرجوع فيه(14).
القول الثاني: أن الوفاء بالوعد واجب بحيث يحرم إخلافه بلا عذر ، وهو وجهٌ عند الحنابلة(15)، اختاره شيخ الإسلام ابن تيميّة(16)، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي(17).
واستدلوا بأدّلة أكتفي بأقواها وهي:
الدليل الأول: قوله _تعالى_:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2)
وجه الدلالة:ذمُّ الله _تبارك وتعالى_ لمن يقول ما لا يفعل ؛إذْ أخبر _سبحانه_ أنه يمقت ذلك ، والمقت أعظم البغض ، ولا يكون مثل ذلك إلا على ترك واجب أو فعل محرم ، وإخلاف الوعد من قبيل هذا فيشمله الوعيد(18).
نوقش : بأنّ المراد بالآية الأمور الواجبة كالجهاد والزكاة وأداء الحقوق(19).
ويمكن أن يجاب: بأن الأصل في الآية الإطلاق والعموم.
الدليل الثاني:قوله _صلى الله عليه وسلم_:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان"(20).وجه الدلالة:أن النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ نصّ على أنّ إخلاف الوعد علامةٌ على النفاق ، مما يدلّ بلا ريب على أن الوفاء به واجب ، وإخلافه محرّم(21).
نوقش: بأن الحديث خاصٌّ بمن وعد بشيءٍ واجبٍ عليه فأخلف وليس الحديث على إطلاقه بدليل أنّ من وعد بمحرّم لا يجب عليه الوفاء به، بل لا يجوز له الوفاء به(22).
يمكن أن يناقش: بأن كون الوعد بالحرام لا يجوز الوفاء به مُسلّم ، وهو قطعاً لم يكن داخلاً في مراد النبيّ _صلى الله عليه وسلم_ أصلاً حتى يقال بأن الحديث دخله التخصيص ؛إذْ هناك فرقٌ بين العمومات التي أريد بها الخصوص وبين العمومات التي دخلها التخصيص ، وعليه فيكون داخلاً في عموم الحديث الوعد بشيءٍ واجب والوعد بشيءٍ لم يجب.
الترجيح:
يظهر لي رجحان القول الثاني وهو القول بوجوب الوفاء بالوعد ديانةً ، وهو الذي تدلّ عليه ظواهر الأدلة، وقد تركت الإسهاب فيها مخافة الطول.
وقد أخذ مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بهذا القول في دورته الخامسة(23).
المسألة الثانية: حكم الإلزام بالوعد قضاءً:
في المسألة السابقة كان الحديث عن الإلزام بالوعد بالمعروف ديانةً ، وفيه تبيّن أن الراجح أنه يلزم ديانةً ، فهل موجِبُ ذلك الإلزام به قضاءً؟
أولاً: الإلزام بالوعد قضاءً إذا كان وعداً بمعروف:
المراد بهذه المسألة: الوعد الْمُنْشَؤُ تبرعاً في غير معاوضة.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول:
الإلزام بذلك قضاءً بإطلاق ، وهو قولٌ عند المالكيّة(24).
واستدلوا: بما سبق الاستدلال به من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالوعد ديانةً ؛إذ الأصل أن ما وجب ديانةً وجب على الحاكم الإلزام به قضاءً لكونه مأموراً بإقامة شرع الله(25).
نوقش: بعدم التسليم بالربط بين الإلزام بالقضاء وبين الواجب ديانةً(26)، وقد ذكر السخاوي فيما نقله عنه صاحب الفتوحات الربّانية فروعاً وجبت ديانةً ولا يُلزم بها قضاء إذْ جاء فيها:((نظير ذلك نفقة القريب فإنها إذا مضت مدة فإنه يأثم بعدم الدفع ولا يُلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: تضعيف العذاب لهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها))(27).
ويجاب : بأن الأصل أن الحاكم مكلّف بالنظر في الحقوق وإقامة شرع الله ، وإذا ثبت وجوب الوفاء بالوعد ديانةً ثبت أنّ هناك حقاً للموعود ولصاحب الحقّ أن يدّعي به عند القاضي وإذا تبيّن للقاضي صدق دعواه كان عليه إلزام الواعد بذلك.
القول الثاني: إنه لا يُلزم به قضاءً ، وهو قولٌ عند المالكية(28)، ومذهب الشافعيّة(29)، والحنابلة(30)، والظاهريّة(31).
واستدلوا: بما سبق ذكره من أدلة للقائلين بأن الوفاء بالوعد مستحب وليس بواجب ، ووجه الدلالة: أن ما ليس واجباً ديانةً فأولى أن لا يجب قضاءً.
نوقش: بعدم التسليم بكونه لا يجب ديانةً إذ تبيّن في الفرع السابق وجوب ذلك ديانة.
القول الثالث: إن الوعد إذا كان معلّقاً على شرط فيكون لازماً بحيث يُقضى به على الواعد ، وهو مذهب الحنفيّة(32).
واستدلوا: بأن الوعد المعلّق على شرطٍ ليس كالوعد المجرّد قياساً على مالو قال: إن شفيت فسأحج فإنه يلزمه الحج ، فكذا لو قال تزوج وأنا أدفع لك التكاليف فإنه يلزمه الوفاء(33).
يناقش:بأن بعدم التسليم بوجوب الوفاء في المقيس عليه ، وحتى لو سُلّم فيه الوجوب فلا يُسلّم بوجوب إلزامه قضاءً بالحج بناءً على ماقال.
القول الرابع: أن الوعد إذا وقع على سبب ودخل الموعود في شيءٍ بناءً على هذا الوعد فإنه يُلزم الواعد بتنفيذه قضاءً ، وهو المشهور عند المالكيّة(34).
واستدلوا: بقوله _صلى الله عليه وسلم_:"لا ضرر ولا ضرار"(35).وجه الدلالة:أن الوعد الذي وقع على سبب أدّى بالموعود إلى الدخول في أمرٍ بسبب ذلك الوعد لو وقع الخُلْف فيه لترتّب على ذلك ضررٌ على الموعود سببه إخلافاً لواعد لوعده وما أدّى إلى الضرر فهو ممنوع(36).
يناقش: بأن الدليل دالٌّ على وجوب الوفاء بالوعد بالمعروف مطلقاً وليس مخصوصاً بهذه المسألة.
الترجيح:
يترجح لي _والله أعلم بالصواب_ القول الأول؛ وهو: الإلزام بالوفاء بالوعد بالمعروف قضاءً لظهور دليله من جهة كونه حقاً يجب على الحاكم تمكين صاحبه منه.
ثانياً : الإلزام بالوعد في المعاوضات (الوعد التجاري):
قبل أن أشرع في بيان هذه المسألة أشير إلى أنه ينبغي التنبيه على أن أقوال الفقهاء في المسألة السابقة خاصّةٌ بالوعد بالمعروف دون الوعد في المعاوضات وهو ظاهرٌ من خلال طرحهم للكلام في المسألة بل هو ظاهر من تعريفهم للوعد بأنه إخبارٌ عن إنشاء المُخْبِر معروفاً في المستقبل(37)، ولهذا فإن المالكية _رحمهم الله_ نصّوا على تسمية الوعد التجاري بالمواعدة تفريقاً بينه وبين الوعد بالمعروف ؛جاء في إيضاح المسالك:"منع مالكٌ المواعدة في العدّة وعلى بيع الطعام قبل قبضه ، ووقت نداء الجمعة ، وعلى ما ليس عندك"(38).
وبناء على ما سبق فلا يستقيم حملُ أقوال الفقهاء في مسألة الإلزام بالوعد بالمعروف على هذه المسألة ، بل يمكن اعتبارها مسألة جديدة مع الاستفادة مما ذكره الفقهاء في المسألة التي قبلها(39).
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم الإلزام بالوفاء بالوعد التجاري على قولين:
القول الأول:
جواز اشتراط أن تكون المواعدة ملزمةً للطرفين بحيث يُلزم كلٌّ منهما قضاءً، وهو رأي جماعةٍ من المعاصرين منهم: د.سامي حمود(40)، والشيخ يوسف القرضاوي(41)، وبه صدر قرار المصرف الإسلامي الأول المنعقد في دبي(42)، وقرار مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت(43).
واستدلوا بعدة أدلة أقواها ما يلي:
الدليل الأول: قوله _صلى الله عليه وسلم_:"لا ضرر ولا ضرار"(44).
وجه الدلالة: أن الحديث يمنع الضرر والإضرار بالآخرين وفي الإلزام بالمواعدة للطرفين منعٌ لضرر متحقق أو غالبِ التحقق على أحدهما.
نوقش:بأن الضرر غير متعيّن ؛إذْ يمكن دفع الضرر بطرقٍ أخرى منها أن يشترط المأمور بالشراء عند شرائه السلعة من مالكها الخيار مدةً تمكنه من إعادتها في حال رفض الآمر شراءها(45).
الدليل الثاني: أن في الإلزام بهذه المواعدة مصالح متعددة ، منها : مصلحة العاقدين من جهة الاطمئنان إلى إتمام التعاقد ، ومصلحة استقرار المعاملات وضبطها مما سيدفع الشقاق والاختلاف مع أنه لا محظور في القول بالإلزام(46).
نوقش:بأن المحظور الشرعيّ غير منتفٍ بل هو متحقق، وذلك لأن الشارع قد نهى عن بيع ما ليس عند البائع ، والمواعدة الملزمة هي في الحقيقة معاقدة على البيع والشراء ، وبناء على ذلك فإن كلّ مصلحةٍ تترتب على ذلك تكون ملغاةً في نظر الشرع لمخالفتها لصريح النهي عن بيع ماليس عندك(47).الدليل الثالث: ما سبق ذكره من أدلة للإلزام بالوعد بالمعروف ، هي كذلك دالّةٌ على الإلزام بالوعد التجاري إذ لا فرق(48).
نوقش:بأن الوعد التجاري هو في الحقيقة عقدٌ فينبغي أن تُجرى عليه أحكام العقد ومنه عدم جواز الوعد ببيع ما ليس مملوكاً للبائع وعداً مُلزِماً. ومن جهةٍ أخرى فلا يصحّ قياس الوعد في المعاوضات على الوعد بالمعروف؛ لأن في الإلزام بالوعد في المعاوضات مفاسد منها ما سبق ذكره من كونه يترتب عليه إلحاقها ببيع الإنسان ما لا يملك ، وأيضاً فإن العقد التالي لتلك المواعدة الملزمة سيكون واقعاً تحت ضغط الإلزام خالياً عن الرضا الذي هو شرطٌ في صحة التعاقد(49).
القول الثاني: أنه لا يجوز اشتراط كون المواعدة أو الوعد التجاري ملزماً للطرفين، وهو رأي أكثر المعاصرين ، وصدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي(50)، وعليه فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(51).
واستدلوا بأدلة أقواها ما يلي:
الدليل الأول : أن العبرة بحقائق العقود لا بالألفاظ ، وإذا تم التواعد على كون الوعد ملزماً فإنه في الحقيقة تعاقد وإن سمي وعداً لأن الإلزام من أبرز خصائص العقد(52).
نوقش: بأنه لا يُسلّم ذلك من جهة أن التواعد وإن كان ملزماً فإنه يقتصر على إبداء الرغبة في البيع والشراء دون إتمام ذلك(53).