اللغة العربية سيدة اللغات ! - اللغة العربية .. مكانتها ووزنها
إنّ لغة اختارها الله تعالى لتكون وعاء لكتابه الخالد ﴿القرآن الكريم﴾ لا شك لغة تتربع على عرش الألسنة واللغات !وتلك مفخرة لنا نحن العرب، غبطنا عليها أهل الفكر والثقافات - شرقيين وغربيين -..(1)
يقول الدكتور عبد الوهاب عزام: «العربية لغة كاملة محببة عجيبة تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، وتكاد تنجلي معانيها في أجراس الألفاظ؛ كأنما كلماتها خطوات الضمير، ونبضات القلوب، ونبرات الحياة»(2).
لذا فلغتنا العربية تحتل مكانة كبيرة في نظر المستشرقين المنصفين:
يقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون عن اللغة العربية: « وباستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم التي تحمل من سموّ الفكر وأمارات الفتوة والمروءة ما لا مثيل له »(3) .
ويشير ماسينيون إلى أن اللغة العربية: لغة وعي ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن للتأثير في اللغة الدولية المستقبلية، وإن في اللفظ العربي جرساً موسيقياً لا أجده في لغتي الفرنسية - حسب تعبيره – (4).
ويقول المؤرخ الفرنسي آرنست رينان: « من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال لدرجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر؛ حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شبيهاً لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت محافظة على كيانها من كل شائبة » (5).
ويقول المستشرق الأمريكي كوتهيل: « قلّ منا نحن الغربيين من يقدّر اللغة العربية حق قدرها من حيث أهميتها وغناها، فهي بفضل تاريخ الأقوام التي نطقت بها، وبداعي انتشارها في أقاليم كثيرة، واحتكاكها بمدنيات مختلفة، قد نمت إلى أن أصبحت لغة مدنية بأسرها بعد أن كانت لغة قبلية. لقد كان للعربية ماض مجيد، وفي تقديري سيكون لها مستقبل باهر» (6).
بينما يقول المستشرق الأمريكي وليم ورل: «إن اللغة العربية من اللين والمرونة ما يمكنانها من التكيف وفق مقتضيات العصر، وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أي لغة أخرى من اللغات التي احتكت بها، وهي ستحافظ على كيانها في المستقبل كما حافظت عليه في الماضي» (7).
أما العالم الألماني فريننباغ فيقول: «ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل الذين نبغوا في التأليف بها لا يمكن حصره، وإنّ اختلافهم عنا في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألّفوه حجاباً لا نتبين ما وراءه إلا بصعوبة»(8).
وبعد؛ فتلك شهادات عربية وأجنبية بحق اللغة العربية، وليس هناك من لغة تحمل من الغنى ما تحمله اللغة العربية من سعة وآفاق رحبة؛ وهذا عنصر من عناصر ديمومتها وعالميتها..(9).
العربية لغة دين وتعلّمها واجب
وضعت اللغات لدى شعوب الأرض لإقدارها على التفاهم والتواصل، وحملت اللغات رسالات السماء إلى الأرض، وتمكن الخلق بواسطتها من تنظيم فكره وتطويره.
واللغة العربية حملت آخر الرسالات، وأريد لها أن تكون لسان الوحي، وقدّر لها أن تستوعب دليل نبوة الإسلام، واختزال مضامين الرسالات السابقة، والانطواء على المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه إلى يوم الدين(10).
وقد أكسب الإسلام اللغة العربية قاعدة عريضة ومجالاً رحباً للحيوية والفعالية والنشاط الواقعي بين صفوف المسلمين ممن لسانهم عربي أو أعجمي ناطق بها، وكان الدخول في الإسلام يعني تعلم اللغة العربية؛ حتى كادت العربية أن تكون مرادفة للإسلام في عصوره الأولى في نظر الشعوب الأخرى من غير العرب.
وقد سأل أبو جعفر المنصور مولىً لهشام بن عبد الملك (ت. 132 ﻫ) عن هويته؛ فقال المولى: «إن كانت العربية لساناً فقد نطقنا بها، وإن كانت ديناً فقد دخلنا فيه !»(11).
فكون اللغة العربية: لغة دين، تجعل الأجيال متصلة جيلاً بعد جيل؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم، ولغته باقية ما بقيت الدنيا، لن تجد بقعة في هذه الأرض إلا وفيها لغة عربية بتفاوت في الكمية والكيفية بين بقعة وأخرى.
أليست هذه الخصيصة للغة العربية عاملاً مهماً ورئيساً لأن تجعلها لغة عالمية باقية؛ وأنها لغة تشد إليها مئات الملايين من أجناس البشر ويفتخرون بأن لهم نصيباً منها؟(12).
هذا؛ في الوقت الذي كانت فيه دراسة اللغة العربية عند الأقدمين مرتبطة بالعامل الديني؛ ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق، فقد خلفت لنا العصور الأدبية على امتداد التاريخ اهتماماً كبيراً بلغة القرآن سواء فيما يتصل برصد مروياتها من الآثار الأدبية من شعر ونثر، أو فيما يتصل بإضفاء مفرداتها، وتسجيل أوابدها وغرائبها في المعجمات والقواميس اللغوية، أو فيما يتصل باستنباط القواعد والأسس التي تعنى بسلامتها، والمحافظة على أصولها الموروثة، ووضع الدراسات اللغوية الخاصة باكتناه أسرارها، والكشف عن خصائصها ومميزاتها(13).
ويقرر هذا أبو منصور الثعالبي (350-429 ﻫ)؛ إذ يقول: «من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن العربية عنى بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح الثقة في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد»(14).
وجوب تعلم اللغة العربية
العربية ليست كأية لغة من اللغات الأخرى، بل هي فريدة من نوعها؛ اصطفاها الله من بين اللغات جميعاً لتكون وعاء لكتابه الخالد ﴿القرآن الكريم﴾. أيضاً اختارها لتكون لسان نبيه الأمين؛ لذا أوجب الشارع الحكيم تعلمها، حتى يفهم مقاصد الكتاب والسنة (15) .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك» (16) .
وأوجب شيخ الإسلام ابن تيمية على المسلم تعلم العربية؛ فقال: «إن معرفة اللغة من الدين ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (17).
وأرجع ابن تيمية -رحمه الله - الخلط في الدين عند أهل البدع إلى: قلة فهم اللغة العربية؛ حيث يقول: «إن معرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك ضلال أهل البدع كان لهذا السبب، فإنه صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك» (18).
ويوضح هذا المفهوم الجاحظ (159-255 ﻫ)؛ إذ يقول: «للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وإراداتهم... فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك»(19) .
* مقتطعة من مقالة بعنوان نحو النهوض باللغة العربية للدكتور محمد بلاسي
عن مجلة التاريخ العربي
الهوامش:
(1) علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة، دار نهضة مصر، د. ت، ص. 244 وما بعدها؛ محمد السيد علي بلاسي، المعرَب في القرآن الكريم، المقدمة، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس الغرب، ط. 1، 2001، ص. 7.
(2) عبد الرزاق عبد الرحمن السعدي، «مقومات العالمية في اللغة العربية وتحدياتها في عصر العولمة»، بحث منشور في مجلة آفاق الثقافة والتراث، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي، العدد الثالث والستون، شوال 1429 ﻫ، ص. 47.
(3) علي عبد الواحد وافي، «فقه اللغة»، نقلاً عن جريدة الأهرام، عدد 26/1/1949 م، ص. 245 وما بعدها؛ خلاصة بحث العلامة لويس ماسينيون، المعنون بـ: "مقام الثقافة العربية بالنسبة إلى المدينة العالمية".
(4) محمود السيد، «التمكين للغة العربية: آفاق وحلول»، بحث منشور في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق، الجزء الثاني، المجلد الثالث والثمانون، ربيع الأول، سنة 1429 ﻫ، ص. 309.
(5) التمكين للغة العربية.. آفاق وحلول، المرجع السابق، صص. 309.
(6) المرجع نفسه، ص. 308.
(7) المرجع نفسه، ص. 309.
(8) المرجع نفسه، ص. 309.
(9) مقومات العالمية في اللغة العربية وتحدياتها في عصر العولمة، ص. 47.
(10) عباس أرحيلة، «العلم بالعربية.. ضرورة عقدية»، مقال منشور في مجلة منار الإسلام، عدد محرم سنة 1415 ﻫ، ص. 82.
(11) عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة الإسلامية.. دراسة في الهوية والوعي، بيروت، 1984، ص. 19؛ إبراهيم أبو الخشب، «محنة اللغة العربية»، هدية مجلة الأزهر لشهر صفر سنة 1430 ﻫ، ص. 5 وما بعدها.
(12) مقومات العالمية في اللغة العربية وتحدياتها في عصر العولمة، مرجع سابق، ص. 47.
(13) حمد بن ناصر الدخيل، مقالات وآراء في اللغة العربية، دار الشبل في الرياض، ط. 1، 1415 ﻫ، صص. 53-54.
(14) الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية، (المقدمة)، تحقيق السفا وآخرين، الحلبي، سنة 1392 ﻫ.
(15) محمد السيد علي بلاسي، قطوف من فقه اللغة، دار ظافر، ط. 1، 1418 ﻫ، ص. 8.
(16) الإمام الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي، ط. 1، سنة 1358 ﻫ.
(17) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1369 ﻫ، ص. 207.
(18) مقلات وآراء في اللغة العربية، مرجع سابق، صص. 53-54.
(19) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مصطفى الحلبي، ط. 2، د. ت، ج 1، ص. 154.
يقول الدكتور عبد الوهاب عزام: «العربية لغة كاملة محببة عجيبة تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، وتكاد تنجلي معانيها في أجراس الألفاظ؛ كأنما كلماتها خطوات الضمير، ونبضات القلوب، ونبرات الحياة»(2).
لذا فلغتنا العربية تحتل مكانة كبيرة في نظر المستشرقين المنصفين:
يقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون عن اللغة العربية: « وباستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم التي تحمل من سموّ الفكر وأمارات الفتوة والمروءة ما لا مثيل له »(3) .
ويشير ماسينيون إلى أن اللغة العربية: لغة وعي ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن للتأثير في اللغة الدولية المستقبلية، وإن في اللفظ العربي جرساً موسيقياً لا أجده في لغتي الفرنسية - حسب تعبيره – (4).
ويقول المؤرخ الفرنسي آرنست رينان: « من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال لدرجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر؛ حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شبيهاً لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت محافظة على كيانها من كل شائبة » (5).
ويقول المستشرق الأمريكي كوتهيل: « قلّ منا نحن الغربيين من يقدّر اللغة العربية حق قدرها من حيث أهميتها وغناها، فهي بفضل تاريخ الأقوام التي نطقت بها، وبداعي انتشارها في أقاليم كثيرة، واحتكاكها بمدنيات مختلفة، قد نمت إلى أن أصبحت لغة مدنية بأسرها بعد أن كانت لغة قبلية. لقد كان للعربية ماض مجيد، وفي تقديري سيكون لها مستقبل باهر» (6).
بينما يقول المستشرق الأمريكي وليم ورل: «إن اللغة العربية من اللين والمرونة ما يمكنانها من التكيف وفق مقتضيات العصر، وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أي لغة أخرى من اللغات التي احتكت بها، وهي ستحافظ على كيانها في المستقبل كما حافظت عليه في الماضي» (7).
أما العالم الألماني فريننباغ فيقول: «ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل الذين نبغوا في التأليف بها لا يمكن حصره، وإنّ اختلافهم عنا في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألّفوه حجاباً لا نتبين ما وراءه إلا بصعوبة»(8).
وبعد؛ فتلك شهادات عربية وأجنبية بحق اللغة العربية، وليس هناك من لغة تحمل من الغنى ما تحمله اللغة العربية من سعة وآفاق رحبة؛ وهذا عنصر من عناصر ديمومتها وعالميتها..(9).
العربية لغة دين وتعلّمها واجب
وضعت اللغات لدى شعوب الأرض لإقدارها على التفاهم والتواصل، وحملت اللغات رسالات السماء إلى الأرض، وتمكن الخلق بواسطتها من تنظيم فكره وتطويره.
واللغة العربية حملت آخر الرسالات، وأريد لها أن تكون لسان الوحي، وقدّر لها أن تستوعب دليل نبوة الإسلام، واختزال مضامين الرسالات السابقة، والانطواء على المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه إلى يوم الدين(10).
وقد أكسب الإسلام اللغة العربية قاعدة عريضة ومجالاً رحباً للحيوية والفعالية والنشاط الواقعي بين صفوف المسلمين ممن لسانهم عربي أو أعجمي ناطق بها، وكان الدخول في الإسلام يعني تعلم اللغة العربية؛ حتى كادت العربية أن تكون مرادفة للإسلام في عصوره الأولى في نظر الشعوب الأخرى من غير العرب.
وقد سأل أبو جعفر المنصور مولىً لهشام بن عبد الملك (ت. 132 ﻫ) عن هويته؛ فقال المولى: «إن كانت العربية لساناً فقد نطقنا بها، وإن كانت ديناً فقد دخلنا فيه !»(11).
فكون اللغة العربية: لغة دين، تجعل الأجيال متصلة جيلاً بعد جيل؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم، ولغته باقية ما بقيت الدنيا، لن تجد بقعة في هذه الأرض إلا وفيها لغة عربية بتفاوت في الكمية والكيفية بين بقعة وأخرى.
أليست هذه الخصيصة للغة العربية عاملاً مهماً ورئيساً لأن تجعلها لغة عالمية باقية؛ وأنها لغة تشد إليها مئات الملايين من أجناس البشر ويفتخرون بأن لهم نصيباً منها؟(12).
هذا؛ في الوقت الذي كانت فيه دراسة اللغة العربية عند الأقدمين مرتبطة بالعامل الديني؛ ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق، فقد خلفت لنا العصور الأدبية على امتداد التاريخ اهتماماً كبيراً بلغة القرآن سواء فيما يتصل برصد مروياتها من الآثار الأدبية من شعر ونثر، أو فيما يتصل بإضفاء مفرداتها، وتسجيل أوابدها وغرائبها في المعجمات والقواميس اللغوية، أو فيما يتصل باستنباط القواعد والأسس التي تعنى بسلامتها، والمحافظة على أصولها الموروثة، ووضع الدراسات اللغوية الخاصة باكتناه أسرارها، والكشف عن خصائصها ومميزاتها(13).
ويقرر هذا أبو منصور الثعالبي (350-429 ﻫ)؛ إذ يقول: «من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن العربية عنى بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح الثقة في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد»(14).
وجوب تعلم اللغة العربية
العربية ليست كأية لغة من اللغات الأخرى، بل هي فريدة من نوعها؛ اصطفاها الله من بين اللغات جميعاً لتكون وعاء لكتابه الخالد ﴿القرآن الكريم﴾. أيضاً اختارها لتكون لسان نبيه الأمين؛ لذا أوجب الشارع الحكيم تعلمها، حتى يفهم مقاصد الكتاب والسنة (15) .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك» (16) .
وأوجب شيخ الإسلام ابن تيمية على المسلم تعلم العربية؛ فقال: «إن معرفة اللغة من الدين ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» (17).
وأرجع ابن تيمية -رحمه الله - الخلط في الدين عند أهل البدع إلى: قلة فهم اللغة العربية؛ حيث يقول: «إن معرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك ضلال أهل البدع كان لهذا السبب، فإنه صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك» (18).
ويوضح هذا المفهوم الجاحظ (159-255 ﻫ)؛ إذ يقول: «للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية وموضع كلام يدل عندهم على معانيهم وإراداتهم... فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك»(19) .
* مقتطعة من مقالة بعنوان نحو النهوض باللغة العربية للدكتور محمد بلاسي
عن مجلة التاريخ العربي
الهوامش:
(1) علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة، دار نهضة مصر، د. ت، ص. 244 وما بعدها؛ محمد السيد علي بلاسي، المعرَب في القرآن الكريم، المقدمة، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس الغرب، ط. 1، 2001، ص. 7.
(2) عبد الرزاق عبد الرحمن السعدي، «مقومات العالمية في اللغة العربية وتحدياتها في عصر العولمة»، بحث منشور في مجلة آفاق الثقافة والتراث، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي، العدد الثالث والستون، شوال 1429 ﻫ، ص. 47.
(3) علي عبد الواحد وافي، «فقه اللغة»، نقلاً عن جريدة الأهرام، عدد 26/1/1949 م، ص. 245 وما بعدها؛ خلاصة بحث العلامة لويس ماسينيون، المعنون بـ: "مقام الثقافة العربية بالنسبة إلى المدينة العالمية".
(4) محمود السيد، «التمكين للغة العربية: آفاق وحلول»، بحث منشور في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق، الجزء الثاني، المجلد الثالث والثمانون، ربيع الأول، سنة 1429 ﻫ، ص. 309.
(5) التمكين للغة العربية.. آفاق وحلول، المرجع السابق، صص. 309.
(6) المرجع نفسه، ص. 308.
(7) المرجع نفسه، ص. 309.
(8) المرجع نفسه، ص. 309.
(9) مقومات العالمية في اللغة العربية وتحدياتها في عصر العولمة، ص. 47.
(10) عباس أرحيلة، «العلم بالعربية.. ضرورة عقدية»، مقال منشور في مجلة منار الإسلام، عدد محرم سنة 1415 ﻫ، ص. 82.
(11) عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة الإسلامية.. دراسة في الهوية والوعي، بيروت، 1984، ص. 19؛ إبراهيم أبو الخشب، «محنة اللغة العربية»، هدية مجلة الأزهر لشهر صفر سنة 1430 ﻫ، ص. 5 وما بعدها.
(12) مقومات العالمية في اللغة العربية وتحدياتها في عصر العولمة، مرجع سابق، ص. 47.
(13) حمد بن ناصر الدخيل، مقالات وآراء في اللغة العربية، دار الشبل في الرياض، ط. 1، 1415 ﻫ، صص. 53-54.
(14) الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية، (المقدمة)، تحقيق السفا وآخرين، الحلبي، سنة 1392 ﻫ.
(15) محمد السيد علي بلاسي، قطوف من فقه اللغة، دار ظافر، ط. 1، 1418 ﻫ، ص. 8.
(16) الإمام الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي، ط. 1، سنة 1358 ﻫ.
(17) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1369 ﻫ، ص. 207.
(18) مقلات وآراء في اللغة العربية، مرجع سابق، صص. 53-54.
(19) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مصطفى الحلبي، ط. 2، د. ت، ج 1، ص. 154.